موريس متى – النهار العربي
في حضور ما يقارب 100 متحدث من 22 دولة بالاضافة الى العديد من المشاركين من عالم الاعمال، إستضافت العاصمة اليونانية أثينا منتدى السياسات الرئيسة “Conference Policy Key” ضمن فعاليات All Things Energy 2021، وهي تظاهرة ذات تأثير كبير في سوق الطاقة العالمي، إذ يشارك فيها منتجو الطاقة ومستهلكوها وشركات الخدمات والتكنولوجيا المتعلقة بالطاقة، فضلاً عن السلطات الحكومية. تضمنت أعمال هذا المنتدى حوارات ومناقشات للبيانات المالية الجديدة للشركات الكبرى بالاضافة الى بحث مفصل في السياسات الدولية والإقليمية والابتكارات وأحدث التقنيات مروراً بتجارة الطاقة بشكل عام حول العالم
عملياً، دخلت أعمال الطاقة العالمية فترة من التغيير غير المسبوق مع انتقالنا نحو عالم جديد من انبعاثات منخفضة أو معدومة، وهذا التحول ضروري لوضع حد لارتفاع درجة حرارة الارض التي تنعكس سلباً على تغير المناخ، اذ اعتبر الخبراء أن الفترة الانتقالية ستكون صعبة للبعض، لكن الانتقال سيفتح أيضاً فرصاً لا تعد ولا تحصى لأولئك الذين يفكرون في مستقبل أفضل، ومن هنا، وفي في واحدة من أكثر الجلسات إثارة للاهتمام خلال فعاليات هذا المنتدى، اعتبر الخبير الدولي في شؤون الطاقة رودي بارودي إنه ينبغي أن تكون دول البحر المتوسط من بين أكبر الدول المستفيدة من التحول من استعمال الوقود الاحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة، معتبراً أن الفحم الذي أطلق الثورة الصناعية لا يعد يحظى بشعبية، ويعود ذلك أساساً إلى أن احتراقه يطلق الكثير من الكربون، لذلك حل مكانه النفط المسؤول حالياً عن انبعاث “غازات الاحتباس الحراري” والمسؤولة بدورها عن تغير المناخ. النفط يعتبر حالياً من أهم سلعة في العالم، إلا أن مصيره سيكون مماثلاً لمصير الفحم، اذ لا يمكننا الاستمرار في استخدامه بالشكل الذي نستخدمه اليوم. وحتى الغاز الطبيعي، وهو أنظف أنواع الوقود الأحفوري فسيتم التخلص منه في نهاية المطاف، على الرغم من أنه حتى ذلك الحين سيكون وقوداً مهماً يستطيع أن يسد الفجوات التي لا مفر منها بين العرض والطلب
التطورات الجديدة في مجال طاقة الرياح والطاقة الشمسية تجعل منها أكثر قدرة على المنافسة كمنتجة للكهرباء، والبطاريات المطلوبة لدعمها أثناء الانقطاع اصبحت لها سعة تخزين أكبر، إذ تعمل هذه البطاريات المتطورة أيضاً على إحداث ثورة في صناعة السيارات، ما يسمح لأحدث السيارات الكهربائية بالتفوق على منافسيها التقليديين بأسعار تنافسية للغاية
خلال جلسات المنتدى، طرحت مجموعة تساؤلات ومنها حول مصير الوقود الأحفوري، وهل فعلاً يقترب من نهايته. يعود بارودي الى التحذير الذي أطلقه الرئيس التنفيذي لشركة BlackRock وهي أكبر شركة إدارة للأصول في العالم. ففي كانون الثاني (يناير) الماضي، حذر الرؤساء التنفيذيون لكبريات الشركات والصناديق من ضرورة وضع خطط تنموية “طاقوية” لشركاتهم، وذلك قبل أن تدعم BlackRock ثورة المساهمين التي تهدف إلى ضرورة خفض الانبعاثات في اعمال مجموعة ExxonMobil الأميركية. فخلال انتخابات صاخبة لمجلس ادارة الشركة، حصل المتمردون والرافضون للنشاطات التقليدية للشركة على مقعدين ما يؤكد ضرورة إعادة النظر في خطط تطويل الاعمال والمشاريع. في الوقت نفسه، اندلعت ثورة مساهمين أيضاً في شركة “شيفرون”، حيث وافق 61 في المئة من هؤلاء المساهمين على اقتراح يلحظ تخفيض المجموعة انبعاثاتها. وفي الوقت ذاته، تلقت شركة Big Oil ضربة كبيرة ايضاً، عندما أصدرت محكمة هولندية حكمًا في قضية رفعتها مجموعات بيئية، اذ أمرت المحكمة شركة شل بخفض إجمالي انبعاثاتها بما في ذلك مجموعة “سكوب 3” المهمة وذلك بنسبة 45 في المئة مقارنة بالعام 2019
خلال المنتدى الذي استضافته العاصمة اليونانية، عاد بارودي وطرح على المشاركين سؤالاً مهماً: “العالم يتغير، فماذا نفعل حيال ذلك؟” في هذا السياق يقول بارودي: “بكل بساطة وجدية، علينا ان نكون مستعدين لهذا التغير، لذلك تحتاج الدول إلى خطة مناخية شاملة للعمل على المدى القصير والمتوسط والطويل”. ففي منطقة البحر الأبيض المتوسط، تحمل حقبة ما بعد الكربون فرصاً هائلة من حيث الاقتصاد الأزرق، وإحدى هذه المجالات، مصادر الطاقة المتجددة البحرية ومنها مزارع الرياح العائمة، بخاصة بالنسبة الى الدول التي تكون فيها الأراضي الجافة عالية. ولكن هناك أيضاً تقنيات طاقة واعدة أخرى، بما في ذلك طاقة المطر والأمواج والمد والجزر، فضلاً عن الطاقة الحرارية الأرضية تحت سطح البحر. ويقول بارودي: “هنالك بدائل واعدة عن الوقود الأحفوري، شرط ان تكون لدينا الحكمة والبصيرة لتطويرها. إذا فعلنا ذلك، يمكن تزويد مناطق شاسعة من المنطقة بالكهرباء النظيف وبأسعار معقولة، هذا النوع من التطور هو مطلب رئيسي للنمو الاقتصادي الذي من شأنه أن ينتشل ملايين المواطنين لا بل عشرات الملايين من براثن الفقر، كما أنه سيقلل من تدفق المهاجرين المتجهين إلى أوروبا من خلال خلق فرص اقتصادية جديدة لهم في وطنهم”
اذاً، لم يعد هنالك من عذر للتقاعس عن تلبية احتياجاتنا من الطاقة من دون تدمير الكوكب، خصوصاً أن محيطنا المشترك هو عاشر أكبر بحر في العالم. حتى سويسرا الدولة غير الساحلية انضمت إلى نادي الطاقة الزرقاء منذ عام 2019، وقامت بتشغيل أعلى مزرعة شمسية عائمة في العالم على بحيرة – بارتفاع 1800 متر في جبال الألب السويسرية. قد يبدو هذا غير بديهي، لكن لهذا الارتفاع العديد من المزايا التي تسمح للألواح الكهروضوئية بإنتاج ما يصل إلى 50 في المئة من الطاقة مما كانت عليه في قاع الوادي أدناه. وتكون الخلايا التي تمتص ضوء الشمس أكثر كفاءة في الطقس البارد، والضباب النادر، والأشعة فوق البنفسجية أقوى، وبخاصة في فصل الشتاء، اذ يعكس الثلج على المنحدرات الجبلية المحيطة المزيد من ضوء الشمس على الألواح. لقد تطلب الأمر البحث والتخطيط والرؤية لإنجاز هذا المشروع، وهذا بالضبط ما نحتاجه في حوض البحر الأبيض المتوسط
ويغطي الاقتصاد الأزرق أيضاً مجموعة من الأنشطة غير المتعلقة بانتاج الطاقة وهي تشمل السياحة والنقل البحري ومصايد الأسماك، والتنقيب البيولوجي، وكابلات الاتصالات تحت سطح البحر. كما يمكن لهذه الصناعات وغيرها أن توفر الوظائف، وتخفض تكلفة الكثير من الامور، من الطعام إلى المعادن الثمينة، إلى الأدوية المكلفة والتي تنقذ الحياة. ويمكن أن تشهد الشركات والأفراد المشاركون في أشكال مختلفة من الحفاظ على البيئية ازدهاراً في الطلب. من هنا يؤكد بارودي انه وبالنظر إلى ما نعرفه الآن عن الحاجة إلى حماية النظم البيئية، يحتاج المشاركون في الاقتصاد الأزرق إلى دمج التفكير الأخضر في كل جانب من جوانب عملياتهم. يجب إعطاء الأولوية لحماية البيئة جنباً إلى جنب مع أهداف الإنتاج والأرباح السنوية، ولا يمكن أن يكون القطاع الخاص هو المستفيد الوحيد. فالعديد من صناعات الاقتصاد الأزرق عابرة للحدود بطبيعتها، لذا يجب ألا تفوت الحكومات المتوسطية أي فرصة للتعاون والتنسيق. تمر كل من سفن الشحن والمراكب عبر المياه الوطنية لدول مختلفة بطبيعة الحال، وغالبًا ما تنتشر رواسب الموارد عبر الحدود، اذ من الواضح أن الأسماك البرية تذهب إلى حيث تشاء، وكذلك التلوث. بالنظر إلى هذه الوقائع الجغرافية، ستستفيد كل الدول من خلال العمل معاً لتنسيق طرق النقل والسلامة واللوائح البيئية. إذا أردنا أن نجعل البحر الأبيض المتوسط منصة مستقرة للنمو الاقتصادي، فإن أفضل مكان للبدء هو ضمان القدرة على التعاون عبر الحدود. لكن هناك مشكلة كبيرة يجب حلها، فنصف الحدود البحرية في البحر الأبيض المتوسط لم يتم حلها، ما يعني أن الدول الساحلية المجاورة لم تعترف رسمياً بالمناطق الاقتصادية الخالصة
المشكلة خاصة بشرق البحر المتوسط، لذا فليس من المستغرب أن هذا الجزء من المنطقة لديه أعلى مستويات من التوتر الدولي وأكثرها حدة. وهو مكلف أيضاً. فالدول الوحيدة التي أحرزت تقدماً كبيراً في تطوير الغاز الطبيعي البحري، على سبيل المثال، هي تلك التي لديها حدود بحرية مستقرة، ومن الواضح أن شركات النفط الدولية والمستثمرين لا يحبون التعامل في المناطق المتنازع عليها. هذا أمر بالغ الأهمية لسببين: اولاً، لا يزال الغاز شائعاً وسيظل مستخدماً لفترة طويلة كوقود انتقالي، لذلك هناك إيرادات كبيرة يمكن جنيها من خلال استخراجه وبيعه. وثانياً، يعتقد العديد من علماء المناخ الآن أن الأزمة أسوأ مما كان يتصور سابقاً، ويوصون بفرض حظر عالمي على مشاريع النفط والغاز الجديدة. يمكن أن تأتي تفاصيل هذا الحظر خلال مؤتمر الأمم المتحدة (COP26) المعني بتغير المناخ الذي تستضيفه مدينة غلاسكو في اسكتلندا ، في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. فهنا يؤكد بارودي أن أولئك الذين ينتظرون وقتاً أطول لتنشيط صناعات الغاز البحرية الخاصة بهم قد يتم إهمالهم، وبالتالي يصبحون غير قادرين على تحقيق أي من الإيرادات وتوفير الطاقة والمزايا الأخرى للكنز الموجود في بحرهم
يستدعي هذا الوضع قيادة شجاعة وقرارات تاريخية لتسوية الحدود البحرية عبر البحر الأبيض المتوسط، بخاصة أن الحوار والتسويات المطلوبة لن تفتح فقط باب تطوير الغاز، بل سترسي أيضاً الأساس لتعاون أوثق في مجالات أخرى، وهو بالضبط ما يطلبه الاقتصاد الأزرق من أجل تحقيق كامل إمكاناته المتوافرة. والأهم أن تعزيز الهدوء في البحر الأبيض المتوسط يعزز تقاسم المسؤوليات وتجميع الموارد والبيانات المطلوبة، الأمر الذي من شأنه تحسين الاوضاع بشكل كبير بدءاً من الهجرة والتنبؤ بالطقس والبحث والإنقاذ إلى أنظمة التحذير من تسونامي وحماية كابلات الاتصالات. وعند تحقيق هذا الامر يمكن أن نرى المنطقة الأورو – متوسطية بأكملها بحيرة هادئة، ومكاناً مثالياً لتحقيق الأهداف المشتركة، والتعاون الجيواستراتيجي