منذ فترة طويلة، يبرز الجدل القائم حول التحكيم في العقود النفطية ومدى مساسه بسيادة الدولة، باعتباره وسيلة بديلة عن قضاء الدولة في تسوية النزاعات. فالتحكيم نشأ مع الثورة الصناعية وبرز تحديداً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكن اللجوء اليه من قبل الدول النفطية العربية جاء عقب جدل واسع، حيث إن التشريعات القديمة أرادت الحفاظ على سيادة الدولة، فلم تنص صراحة على أهليتها في اللجوء للتحكيم (مثل المواد 818 – 850 من قانون المرافعات المصري القديم لسنة 1949، والمواد 173 – 188 من قانون المرافعات الكويتي لسنة 1980)، والتي نصت بشكل عام على جواز التحكيم في جميع المنازعات التي تنشأ من تنفيذ عقد معين، واضعة شروط لصحة البند التحكيمي

إلا أنه، ومن خلال متابعة حثيثة لمسار التحكيم في العقود النفطية، يمكن القول أن هذه الوسيلة القضائية جاءت كنوع من ردة الفعل على نيل الدول النفطية العربية لاستقلالها ومطالبتها بسيادتها الكاملة على ثروتها النفطية.  أثار ذلك مخاوف الدول الصناعية من المساس بمصالحها الممثلة بشركات النفط التابعة لها، فراحت تقوم “بعولمة” العقود النفطية وتدويلها، وهو ما أدى لنشوء مراكز التحكيم المختلفة بهدف حجب القضاء الوطني للدولة المتعاقدة عن النظر بمنازعات العقود النفطية.هذا الأمر  عبر عنه السيد “ألفريد موريس دي زاياس” في تقريره لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة عندما قال ان المُحكِمون التابعون للشركات هم حماة لمصالح تلك الشركات. مضيفاً بأن نظام تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول هو نظام منفصل تماماً، وهو خارج نظام المحاكم المحلية بل يعلوها ولا يتيح إمكانية الإستئناف

فإذا كان التحكيم يرتبط بشكل أساسي بإرادة الأطراف لناحية أحقيتهم في اختيار المحكمين والقانون المطبق على النزاع ومكان التحكيم وغير ذلك، إلا أن بعض هيئات التحكيم راحت تتخطى تلك الإرادة بهدف فرضه كوسيلة موازية للقضاء وليس بديلاً عنه. هذا ما حصل مثلاً بقضية شركة “أوكسيدنتال بتروليوم” ضد دولة الإكوادور المتعلقة بإغلاق موقع لإنتاج النفط في الأمازون، فقضى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بإلزام الإكوادور بدفع مبلغ 1.76 مليار دولار للشركة التي اتهمتها الإكوادور بارتكاب العديد من المخالفات في مجال حقوق الإنسان وبتدمير البيئة. والخطير في هذا القرار التحكيمي أنه جاء مخالفاً للقانون الإكوادوري وللعقد الموقع الذي يعطي الدولة الحق في إلغاء رخصة الإستثمار الممنوحة للشركة، إذا ما ارتكبت الأخيرة مخالفات جسيمة

إنطلاقاً مما تقدم، فقد تباينت اتجاهات الدول النفطية العربية في اللجوء للتحكيم في العقود التي تكون الدولة أو إحدى مؤسساتها طرفاً فيها، ففين حين سكت المشرّع الإماراتي والبحريني عن أهلية الدولة في اللجوء للتحكيم فلم يجزه أو يحظره في العقود التي تبرمها الدولة أو إحدى مؤسساتها (المادة الأولى من قانون التحكيم الإماراتي الصادر بالقانون الإتحادي رقم 6 لسنة 2018، والمادة الأولى من قانون التحكيم البحريني الصادر برقم 9 لسنة 2015)، فإنه بالمقابل أجاز المشرعين السعودي والقطري والمصري التحكيم في تلك العقود (المادة 10/2 من نظام التحكيم السعودي، والبند الثاني من المادة الثانية من قانون التحكيم القطري والفقرة الثانية من المادة الأولى من قانون التحكيم المصري المعدل). وعليه، يمكن القول أن بعض الدول العربية مازالت حذرة في اللجوء لهذه الوسيلة في العقود النفطية بالنظر لتجاربها السيئة مع هيئات التحكيم من جهة، وتمسكاً منها بالقضاء المحلّي الذي يعتبر الوسيلة الأساسية لتسوية مختلف أنواع المنازعات بما في ذلك المنازعات النفطية

أما في لبنان فالواقع أن المشرع اللبناني كان سبّاقاً في إقرار أهلية الدولة والمؤسسات العامة في اللجوء للتحكيم وذلك في تعديل قانون أصول المحاكمات المدنية بالقانون رقم 440 لسنة 2002، وتحديداً في المادة 626. إلا أن قانون الموارد البترولية في المياه البحرية (رقم 132/2010) لم يخصص فصل للحديث عن وسائل تسوية المنازعات النفطية، مكتفياً بما ورد في الفقرة 7 من المادة 19 منه وكذلك المادة 27 من المرسوم رقم 10289/2013، اللذين تركا الباب مفتوحاً لأطراف العقد النفطي للتفاوض حول وسائل تسوية المنازعات، بما يتوافق مع سياسة لبنان كدولة نامية في جذب الاستثمارات الأجنبية في قطاع النفط، والحفاظ في المقابل على سيادة الدولة في العقود النفطية التي تبرمها

فاللجوء للتحكيم في منازعات العقود النفطية يتم عادة بحال نشوب أي خلاف ناشئ عن تطبيق أو تفسير العقد أو الاتفاقية أو عن القانون المطبق على العقد النفطي، وهو ما أشارت اليه المادة 38 من اتفاقية الاستكشاف والإنتاج بين الدولة اللبنانية والشركات النفطية الثلاث في الرقعتين 4 و 9. وفي هذا الإطار فإن توتال لم تقدم لتاريخه نسخة عن تقريرها النهائي للحكومة اللبنانية عن نتائج عملية الحفر في البئر الاستكشافية الأولى في حقل قانا الواقع في البلوك 9 على ما كان يُفترض في آواخر شهر شباط الفائت، مما يشكل مخالفة للمادة 101 من المرسوم رقم 10289/2013، والتي ألزمت صاحب الحق بتقديم تقرير نهائي فيما یتعلق بكل بئر أو مجرى بئر وذلك في مھلة لا تتجاوز ستة أشھر بعد إكتمال كل عملیة حفر أو نشاط مرتبط ببئر. مع ذلك، فإنه من غير المتوقع اللجوء للتحكيم في هذه المسألة، نظراً لأن الاتفاقية الموقعة ألزمت في المادة 37 بحل أي نزاع عبر التفاوض أولاً، ثم تحدّثت في المادة 38 عن التحكيم. كما إن اللجوء للتحكيم من شأنه أن يهدم العلاقة التعاقدية بين الدولة من جهة وتوتال وشركائها من جهة أخرى، وهو ما تتجنّبه الدولة التي مازالت منفتحة على “الكونسورتيوم” وعلى علاقة تعاقدية معه في البلوك رقم 9، فيما أعلنت عن دورة تراخيص ثالثة لتلزيم الرقع التسعة الأخرى بحلول تموز 2024، وذلك مع عودة رخصة البلوك رقم 4 الى كنف الدولة وعدم نجاح المفاوضات بالنسبة للبلوكين 8 و10

علاوة على ذلك، فإن مكان التحكيم يشكل عاملاً سلبياً بالنسبة للدولة اللبنانية، حيث نصت المادة 38 المذكورة على أن غرفة التجارة الدولية في باريس هي المختصة بالفصل بالنزاع عبر التحكيم، وأن القانون المطبق على إجراءات التحكيم هو ذلك المعمول به لدى هذه الغرفة. فهل يا تًرى ستخسر توتال التحكيم في بلدها الأم؟

فكما أن توتال تحرص على تحييد القضاء اللبناني عن البت بالنزاع، بالنظر لتخوفها من عدم الحيادية، فإنه بالمقابل لا يجب على الدولة اللبنانية القبول بمركز تحكيم يقع في نفس الدولة التي تنتمي لها توتال بجنسيتها، أو أي شركة أخرى، ويجب أن يتم أخذ ذلك بعين الاعتبار فيما يتعلق بتلزيم  أي رقعة مستقبلية لهذا الكونسورتيوم أو غيره. رغم ذلك، أصبح التحكيم ركيزة أساسية في الاستثمار البترولي مما دفع الدول العربية إلى تقبله في قوانينها كوسيلة لا بد منها، بالنظر إلى أن العقد النفطي يبرم بين شخص معنوي عام (الدولة أو من يمثلها)، وشخص معنوي خاص وهي الشركة الأجنبية المستثمرة، مما يجعل اللجوء للتحكيم ضرورة في العقد النفطي بالنظر لاختلاف المراكز القانونية لأطرافه وتباين مصالحهم، سيما وأن وظيفة الدولة في العصر الراهن تغير من الدور الكلاسيكي المتمثل بالدولة الحارسة إلى مشاركتها الفعالة في تحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية وحاجاتها إلى التعاون مع شركات النفط الأجنبية التي تمتلك خبرة واسعة في مجال التنقيب والاستخراج وهو ما دفعها الى التعاقد مع تلك الشركات وتخليها في المقابل عن امتيازاتها التقليدية وقبولها بالتحكيم

استناداً لما تقدم، يمكن القول بالنتيجة أن التحكيم وليد العولمة التي طغت على الإقتصاد العالمي بدءاً من تسعينات القرن الماضي، ولم تكن العقود النفطية بعيدة عما حصل، فشكّل التحكيم إحدى ركائز تلك العقود وهو ما دفع الدول العربية للتنازل عن سيادتها القضائية في العقود النفطية، بحيث أضحت في مرتبة قانونية موازية لأي شخص عادي يبرم عقد تجاري أو مدني، ودفعها الى القبول بالتحكيم في قوانينها


الدكتور علاء حسن